اغتيال “الدّحدوح”.. اغتيال الصّحافة.. اغتيال الثّقافة
أوازيس أف أم- علي غوائدية- تونس: كي لا يمرّ حدث استهداف الجيش الصّهيوني لسيّارة مدير مكتب قناة “الجزيرة” القطريّة في “غزّة – فلسطين” وقتل ابنه وزميله مجرّد فداء قناة تلفزيونيّة أو مأتم عائلي، لا بدّ من طرح السّؤال: ماذا يعني اغتيال الصّحفيين؟
تتسارع في أذهاننا الأسئلة: لماذا تُستهدف مهنة يُفترض فيها “الحياد” و “الموضوعيّة” ونشدان الحقيقة وبثّها لعموم البشر؟ عفوا قلتُ “الحقيقة”؟! إنّها الدّاء ودواؤه الاغتيال بالنّسبة لمغتاليها! كيف؟ لماذا؟ بالمناسبة هذان السؤالان تندر الإجابة عنهما في مطالع “الأخبار”. من هنا يبدأ اغتيال الصّحافة، من لحظة اكتفاء الصّحفيون بـ”التّصريحات”.
إنّ استهداف سيّارة مدير مكتب قناة الجزيرة في قطاع غزّة وائل الدّحدوح يوم الإثنين 8 جانفي 2024 له من الرّمزيات والدّلالات والإحالات الأعمق والأبعد، في تقديري. إنّه الخوف من الصّورة، من الصّحافة الّذي يجري في دماء كل مجرم على وجه الأرض أيّ كان جنسه ولونه ووضعه القانوني: محلّي أم مستعمر. والطّامة الكُبرى كون هذه المهنة النّاشدة للحقيقة، نظريّا، كان قد أكلها طيف واسع من أبنائها. فعلوا ذلك حينما أجحفوا في الانتقاء إلى حدّ تقديم “أنصاف الحقائق” ما نتج عنه تضليلا إعلاميّا. أفقدوا المهنة والتخصّص مشروعيتهما حينما عتمّوا وحجبوا أخبارا ما عن الجمهور بسبب خارجيّ (الصّنصرة والرّقابة وانعدام الجزاء المادي والمعنوي اللاّزمين) أم ذاتي (الكسل وسوء ترتيب الأحداث في سلّم الأهميّة).
وماذا يعني اغتيال مهنة ترتقي إلى أن تكون “سلطة” فوق كلّ السّلطات و”الوظائف” وتراقبها كلّها شاء من شاء وأبى من أبى ولهذا تُغتال بشتّى أصناف الاغتيال ومن مختلف الأيادي، في حالات السّلم كما الحرب وحتّى بمجرّد الاشتباك بالأيدي؟ يعني ارتكاب جرم مضاعف: حرمان الإنسان من حقّه في المعرفة وفي أن يكون اجتماعيّا مدنيّا، ومن التّربية عن اتّخاذ موقف وتقرير إدارته لشؤون حياته. يعني التّعتيم والتّجهيل.. يعني عالم بلا “خبر”!
ولا تتوهّموا كون ما تقرؤوه وتسمعوه وتشاهدوه ،معا أو منعزلين ، على طفرته واختلاف أشكاله ومصادره ومسافة قربه من الأحداث أخبارا. إنّها مجتزءات من الواقع، إنّها تصريحات متضاربة ومتصارعة، إنّها صور متحاربة بلا توليفة ولا معنى. ودليلي في سؤالي: هل يمكننا بما لدينا من انفجار مضامين أو محتويات أن نصوغ خبرا عن النّتائج “الوقتيّة” (لفائدة من؟) للحرب الدّائرة اليوم في فلسطين منذ ثلاثة أشهر؟ ما معنى صور وأقوال متضاربة ومتحاربة وخطوط تحريريّة تابعة ومتواطئة مع أطراف المعركة؟ إنّها تخلّف تشّتتا ذهنيّا وتُخمة تُرديك عاجزا عن بناء موقف، عن الفهم. حتّى تعاطفك يصبح متقلّبا وظرفيّا. هاهي تبعات ومعاني اغتيال الصّحافة تلك المهنة المؤطِّرة والمحلّلة والمتوازنة والمنوّعة لمصادر المعلومات كما درسناها في الجامعة. أين هي اليوم؟ لقد اغتُيلت.
لقد سبق وأن قتل الجيش الصّهيوني مراسلة قناة الجزيرة في “القدس” “شيرين أبو عاقلة” منذ أكثر من عام ، وخلال هذه الحرب فعل الفعلة نفسها مع صحفيين لقناة “الميادين” في جنوب “لبنان”، على الاختلافات الواضحة في الخط التّحريري للقناتين. ومن هنا يأتي استدعائي للجانب الرّمزي، و”استنفاري” لتأويلاتي. فمهما يكن من الأمر وعلى المؤاخذات الممكنة للقناتين ” فهما ، إلى جانب قناتي “العربيّة” و”سكاي نيوز عربي”، قنوات عربيّة دوليّة فاعلة في صياغة الرّواية العربيّة، غير المتناسقة والموحّدة، للصّراع مع “العدو” حتّى لا أجزم بقدرتها على تشكيل “رأي عام” عربي.
لا يتعلّق الأمر بمجرّد حوادث إجراميّة، بل بنسق عسكري وايديولوجي يستهدف الصّحافة وكل عناصر الثّقافة. وهنا مرّد عنواني لمقالي: “اغتيال الدّحدوج.. اغتيال الصّحافة .. اغتيال الثّقافة”.
آمل ألاّ أكون قد أجحفت في التّأويل! وأن أكون قد حقّقت لكم المعنى!